الجهالة عند نقاد الحديث
الجهالة عند نقاد الحديث: مفهومها وأسبابها واحكامها
تعد مسالة الجهالة من القضايا الهامة في النقد الحديثي لما يترتب عليها من أحكام تتعلق بالرواة والمرويات، وقد تباينت فيها طرائق المحدثين، فمن معتبر لها من أسباب الضعف الشديد إلى ملغ لأثرها ومعتد بروايات المجاهيل مطلقا، وبين هذا وذاك تصرّفات للأئمة النقاد ينبغي معرفتها والالتزام بها لحل كثير من المشكلات في تصحيح الأحاديث وتعليلها، وفيما يلي عرض لنماذج من تصرفات هؤلاء النقاد كالإمام البخاري والإمام مالك والإمام الترمذي والإمام ابن حيان وغيرهم، وقبل الخوض في بيان مواقف هؤلاء الأئمة من الرواة المجاهيل لا بد من تعريف الجهالة لغة واصطلاحا وبيان أسبابها.
تعريف الجهالة
لغة: المجهول في لغة العرب (1) هو:
1- كل شيء غير معلوم الحقيقة.
2- أو غير معلوم الوصف على وجه الدقة.
3- أو في معرفته تردد أو تشكك.
تعريف الجهالة اصطلاحا: عرف الخطيب المجهول بقوله: " هو كل من لم يشتهر بطلب العلم في نفسه، ولا عرفه العلماء به، ومن لم يعرف حديثه إلا من جهة راو واحد" (2)
أسباب الجهالة:
للجهالة سببان بينهما الحافظ ابن حجر بقوله:
" أَحَدُهُما : أَنَّ الرَّاوِيَ قَدْ تَكْثُرُ نُعوتُهُ مِن اسمٍ أَو كُنْيَةٍ أَو لَقَبٍ أَو صِفَةٍ أَو حِرْفةٍ أَو نَسَبٍ ، فيشتَهِرُ بشيءٍ مِنها ، فيُذْكَرُ بِغَيْرِ مَا اشْتُهِرَ بِهِ لِغَرَضٍ مِن الأغْراضِ ، فيُظنُّ أَنَّه آخرُ ، فيَحْصُلُ الجهْلُ بحالِهِ .
والأمر الثاني: أَنَّ الرَّاويَ قد يكونُ مُقِلاً مِن الحديثِ ، فلا يَكْثُرُ الأَخْذُ عَنْهُ، وَقد صَنَّفوا فِيهِ الوُحْدانَ، وهو مَن لم يَرْوِ عنهُ إِلاَّ واحِدٌ ، ولو سُمِّي " (3) .
والتعريف الذي أورده الخطيب البغدادي للمجهول، قد اعترض عليه غير واحد ممن كتب في المصطلح كابن الصلاح والنووي والعراقي (4) .
كما أن الواقع التطبيقي عند الأئمة النقاد يخالفه، فحكم من رو حكموا عليه بالجهالة وقد روي عنه جماعة، وفيهم من حكموا عليه بالوثاقة وليس له إلا راو واحد، وكثير ممن ليس له إلا راو واحد اختلفوا في الحكم عليه بين موثق ومضعف ومجهل(5)
وعليه نستطيع القول أن الجهالة غير مرتبطة بعدد الرواة بقدر ما هي مرتبطة بالشهرة، ورواية الحفاظ.وقد سبق إلى هذا الإمام ابن رجب – رحمه الله – فقال: " وظاهر هذا انه لا عبرة بتعدد الرواة، وإنما العبرة بالشهرة، ورواية الحفاظ" (6) .
فمقدار مرويات الرجل لها دور بارز في الحكم عليه، فكلما كثرت مرويات الرجل وكانت مستقيمة كم عليه بالوثاقة، وكلما قلّت وكانت مخالفة لروايات الثقات حكم عليه بالضعف، وإن قلّت رواياته، ولم يتداولها العلماء، فلا يمكن الحكم عليه، وبقي في حيز الجهالة.
وهذا الذي ذهب إليه الحافظ ابن رجب – رحمه الله – يخالف إطلاق محمد بن يحي الذهلي – الذي حكاه عنه الخطيب في الكفاية- وتبعه عليه المتأخرون من أنه ل يخرج الرجل من الجهالة إلا برواية رجلين فصاعدا عنه (7)
وإن كان الخطيب – رحمه الله – قد صرح باعتبار شهرة الراوي بالطلب، وكذلك صرح بان اقل ما ترتفع به الجهالة أن يروي عن الرجل اثنان فصاعدا من المشهورن بالعلم كذلك (
.
ومع ذلك نجد أن كثيرا من المتأخرين لم يعتبروا الشهرة بالطلب في الراوي لكي يرتفع عنه وصف الجهالة ويثبت لهم بذلك وصف العدالة، وقد نبّه على هذا الحاكم النيسابوري فيما نقله عنه الحافظ ابن حجر حيث قال: " زاد الحاكم في علوم الحديث في شرط الصحيح أن يكون راويه مشهورا بالطلب، وهذه الشهرة قدر زائد عن الشهرة التي تخرجه من الجهالة وقد استدل الحاكم على مشروطية الشهرة بالطلب بما أسنده عن عبد الله بن عون قال: "لا يؤخذ العلم إلا ممن شهد له عندنا بالطلب" والظاهر من تصرف صاحبي الصحيح اعتبار ذلك، إلا أنهما حيث يحصل للحديث طرق كثيرة يستغنون بذلك عن اعتبار ذلك" (9) .
نفهم من كلام الحاكم – رحمه الله – أن هناك نوعين من الشهرة: شهرة شخص الراوي وهذه تنفي عنه جهالة العين، وشهرته بالطلب وهذه تنفي عنه جهالة الحال، وقد أشار الحاكم إلى أن راوي الصحيح لا بد أن يكون معروفا بطلب العلم، وقد استظهر الحافظ ذلك من صنيع الإمامين البخاري ومسلم في صحيحيهما، فكل رواة الصحيحين مشهورون بطلب العلم، وقد تداول أحاديثهم الحفاظ، وحيث يكون الراوي مقلا ولم يتداول الحفاظ حديثه يكون ذلك الحديث الذي يرويه عنه أصحاب الصحاح قد تعددت طرقه وانتشرت فيكون ذلك قائما مقام الشهادة بثقته وضبطه.
ومع هذا نجد بعض رواة البخاري قد وصفوا بالجهالة من طرف بعض أئمة الجرح والتعديل، فما مدى تحقق هذا الوصف في هؤلاء الرواة؟
قال الحافظ - رحمه الله - : " أما جهالة الحال فمندفعة عن جميع من أخرج لهم في الصحيح لأن شرط الصحيح أن يكون راوية معروفاً بالعدالة، فمن زعم أن أحداً منهم مجهول، فكأنه نازع المصنف في دعواه أنه غير معروف، ولا شك أن المدعى لمعرفته مقدم على من يدعي عدم معرفتهن لما مع المثبت من زيادة العلم، ومع ذلك فلا تجد في رجال الصحيح أحداً ممن يسوغ إطلاق اسم الجهالة عليه أصلاً " (10) .
وفيما يلي تراجم هؤلاء الرواة:
1- أحمد بن عاصم البلخي: معروف بالزهد والعبادة، له ترجمة في حلية الأولياء، وقد ذكره ابن حبان فقال: روي عه أهل بلده، وقال أبو حاتم الرازي: مجهول، روي عنه البخاري حديثا واحدا في كتاب الرقاق، وهو في رواية المستملي وحده(11) .
2- إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي المدني: قال ابن القطان الفاسي: لا يعرف حاله(12) وفي ما قاله نظر فان إبراهيم هذا قد ذكره ابن حبان في ثقات التابعين وروى عنه أيضا ولده إسماعيل والزهري(13)
وليس له في صحيح البخاري إلا حديثا واحدا في كتاب الاطعمة في دعائه في تمر جابر بالبركة حتى أوفى دينه (14)، وهو حيث مشهور له رق كثيرة عن جابر منها(15) : عامر الشعبي عن جابر من طريق زكريا بن زائدة. أخرجه البخاري في كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام.
ومن طريق مغيرة عن الشعبي، أخرجه البخاري في كتاب البيوع، ومن طريق فراس عن الشعبي، أخرجه البخاري في كتاب الوصايا. ويرويه عن جابر أيضا، ابن كعب بن مالك، أخرجه البخاري في الاستقراض والهبة، ويرويه عن جابر نبيح العنزي، أخرجه الإمام احمد.
ومما سبق يتبين أن جهالة إبراهيم بن عبد الرحمن المخزومي - على التسليم بها – لا تضر في صحة هذا الحديث لكثرة طرقه، واشتهار مخرجه، وهذا يؤيد ما نقلته عن الحافظ من أن كثرة الطرق يستغني بها عن شهرة الراوي بالطلب عند الشيخين.
3- أسامة بن حفص المدني: قال الحافظ: ضعفه الأزدي، وقال أبو القاسم اللالكائي: مجهول. له في الصحيح حديث واحد في الذبائح (16) بمتابعة أبي خالد الأحمر والطفاوي. وقرأت بخط الحافظ الذهبي في ميزانه "ليس بمجهول فقد روي عنه أربعة" (17).
والظاهر من حال أسامة بن حفص أنه غير مشهور بالرواية، وذلك أن الإمام البخاري لما ذكره في تاريخه لم يزد على ما في هذا الإسناد حيث قال: " أسامة بن حفص المدني، عن هشام بن عروة، سمع منه محمد بن عبيد الله (18) ". ولم يذكره ابن أبي حاتم في كتابه ( الجرح والتعديل).
ويظهر من صنيع الإمام البخاري انه لم يحتج به لأنه اخرج هذا الحديث من رواية الطفاوي وغيره(19) ويؤخذ من صنيعه أيضا انه وان اشترط في الصحيح أن يكون الراوي من أهل الضبط والإتقان، انه وان كان في الراوي قصور عن ذلك ووافقه على رواة ذلك الخبر من هو مثله أنجبر ذلك القصور بذلك، وصح الحديث على شرطه(20) .
4- أسباب أبو اليسع: قال أبو حاتم فيه: مجهول، روى له البخاري حديثا واحدا في البيوع من روايته عن هشام الدستوائي مقرونا(21) .
5- بيان بن عمرو البخاري العابد: شيخ البخاري، اثني عليه ابن المديني ووثقه ابن حبان وابن عدي،وقال أبو حاتم: مجهول. قال الحافظ: ليس بمجهول من روى عنه البخاري وأبو زرعة، وعبد الله بن واصل ووثقه من ذكرنا (22)، فمثل هذا لا يصح أن يطلق عليه لفظ " مجهول" لأن من عرفه عرف حاله حجة على من لم يعرفه ويخبر حاله.
6 – الحسين بن لحسن بن يسار: صاحب ابن عون، قال أبو حاتم: مجهول. وقال احمد بن حنبل: كان من الثقات، احتج به مسلم والنسائي، وروى له البخاري حديثا واحدا في الاستسقاء توبع عليه (23) .
7- الحكم بن عبد الله: قال ابن أبي حاتم عن أبيه: مجهول. قال الحافظ" ليس بمجهول من روى عنه أربعة ثقات ووثقه الذهلي. ومع ذلك ليس له في البخاري سوى حديث واحد في الزكاة(24) أخرجه عن أبي قدامة عنه عن شعبة عن الأعمش عن أبي وائل عن أبي مسعود في نزول قوله تعالى: { الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين...} (25) ، وأخرجه في التفسير من حديث غندر عن شعبة(26) .
8- عباس بن الحسين القنطري: قال ابن أبي حاتم عن أبيه: مجهول. قال الحافظ" ليس بمجهول إن أراد العين فقد رو عنه البخاري وموسى بن هارون الحمال، والحسن بن علي المعمري وغيرهم. وإن أراد الحال فقد وثقه عبد الله بن احمد بن حنبل، قال سألت أبي عنه فذكره بخير، وله في الصحيح حديثان قرنه في أحدهما وتوبع في الاخر" (27) .
9- محمد بن الحسن المروزي: من شيوخ البخاري لم يعرفه أبو حاتم فقال: إنه مجهول. قال الحافظ:" قد عرفه البخاري وروى عنه في صحيحه في موضعين، وعرفه ابن حبان فذكره في الطبقة الرابعة من الثقات" (28) .
10- خالد بن سعد الكوفي: مولى أبي مسعود الأنصاري، وثقه ابن معين، وقال ابن أبي عاصم: مجهول. اخرج له البخاري حديثا واحدا في الطب (29) من روايته عن أبي عتيق عن عائشة في الحبة السوداء، وله عنده شواهد (30)
مما سبق يتضح لنا أن الإمام البخاري لم يرو في صحيحه عن مجهول قط، وذلك لأن جهالة الراوي لا يمكن معها تحقيق عدالته، التي هي شرط في صحة الحديث، أما بالنسبة للرواة غير المشهورين فالبخاري لم يعتمد على أحاديثهم، وما يرويه لهم أحاديث يسيرة جدا لها طرق وشواهد كثيرة.
ولبعض المحدثين مذهبا مرجوحا في تضعيف أحاديث التابعيات ممن لا يعرفن بجرح ولا عدالة، فقد أردنا أن نناقش هذا المذهب مع بيان أنه خلاف الراجح مما كان عليه الأئمة من تلقي أحاديثهم بالقبول والتصحيح والاحتجاج بها.
فهذا " موطأ" إمام الأئمة وحبر الأمة مالك بن انس، وقد قال أبو سعيد بن الأعرابي: كان يحي بن معين يوثق الرجل لرواية مالك عنه، سئل عن غير واحد فقال: ثقة روى عنه مالك. وقال الأثرم: سألت احمد بن حنبل عن عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب، فقال: يزين أمره عندي أن مالك روى عنه.
وقال شعبة بن الحجاج: كان مالك بن انس احد المميزين، ولقد سمعته يقول: ليس كل الناس يكتب عنهم، وإن كان لهم فضل في أنفسهم، إنما هي أخبار رسول الله ، فلا تؤخذ إلا من أهلها.
ففي ((الموطأ)) من هؤلاء التابعيات اللاتي لا يعرفن بجرح ولا عدالة جماعة، نذكر منهن:
1 – حميدة بنت عبيد بن رفاعة، تروي عن كبشة بنت كعب بن مالك، تفرد بالروية عنها إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، وقال الحافظ ابن حجر:" مقبولة من الخامسة".
2 – زينب بنت كعب بن عجرة زوج أبي سعيد الخدري، تروي عن زوجها، وأخته الفريعة، روى عنها سعد بن إسحاق بن كعب، وقال الحافظ ابن حجر:" مقبولة من الثانية".
3 – مرجانة أم علقمة، تروي عن عائشة، تفرد بالرواية عنها ابنها علقمة بن أبي علقمة، وعلق البخاري حديثها عن عائشة في (( الحيض)) وقال الحافظ ابن حجر:" مقبولة من الثالثة".
4 – كبشة بنت كعب بن مالك وكانت تحت ابن أبي قتادة، تروي عن أبي قتادة، تفردت عنها حميدة بنت عبيد بن رفاعة، وقال الحافظ ابن حجر:" وزعم ابن حبان أن لها صحبة ".
5 – أم محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، تروي عن عائشة، تفرد بالرواية عنها ابنها محمد، وقال الحافظ ابن حجر:" مقبولة من الثالثة".
ومن حديث الأخيرة ما أخرجه يحي بن يحي في ((الموطأ )) عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بن قُسَيْطٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَانَ عَنْ أُمِّهِ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَنْ يُسْتَمْتَعَ بِجُلُودِ الْمَيْتَةِ إِذَا دُبِغَتْ. (31)
قلت: هذا حديث ثابت من حديث محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، تفرد به عن أمه، ولم تسم ولم تنسب، ورواه عنه يزيد بن قسيط، وعنه رواه إمام الأئمة مالك بن انس وأودعه في ((موطئه)) محتجا به، ودالا بذلك على توثيق أم محمد هذه، مع كونها مجهولة ولم يعرفها أحد بجرح ولا تعديل !! ، اللهمَّ إلا وصفها بأنها تابعية مدنية من أوساطهن.
ومن حديث زينب بنت كعب، ما أخرجه يحي بن يحي في ((الموطأ)): " عَنْ مَالِكٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ عَنْ عَمَّتِهِ زَيْنَبَ بِنْتِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ أَنَّ الْفُرَيْعَةَ بِنْتَ مَالِكِ - وَهِىَ أُخْتُ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ - أَخْبَرَتْهَا أَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -- تَسْأَلُهُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهَا فِى بَنِى خُدْرَةَ، فَإِنَّ زَوْجَهَا خَرَجَ فِي طَلَبِ أَعْبُدٍ لَهُ أَبَقُوا، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِطَرَفِ الْقَدُّومِ لَحِقَهُمْ فَقَتَلُوهُ قَالَتْ: (( فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ -- أَنْ أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِى فَإِنِّ زَوْجِي لَمْ يَتْرُكْنِى فِى مَسْكَنٍ يَمْلِكُهُ وَلاَ نَفَقَةٍ. قَالَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -- « نَعَمْ ». قَالَتْ: فَأنْصََرَفْتُ، حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِى الْحُجْرَةِ حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي الْحُجْرَةِ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ نَادَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ أَمَرَ بِي فَنُودِيتُ لَهُ، فَقَالَ « كَيْفَ قُلْتِ ». فَرَدَدْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ الَّتِى ذَكَرْتُ مِنْ شَأْنِ زَوْجِى قَالَتْ فَقَالَ « امْكُثِى فِى بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ». قَالَتْ فَاعْتَدَدْتُ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا))، قَالَتْ فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ أَرْسَلَ إِلَىَّ فَسَأَلَنِى عَنْ ذَلِكَ فَأَخْبَرْتُهُ فَاتَّبَعَهُ وَقَضَى بِهِ. (32) .
وقال أبو عيسى الترمذي: " هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِمْ لَمْ يَرَوْا لِلْمُعْتَدَّةِ أَنْ تَنْتَقِلَ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاق"
قلت: فهذا حديث صحيح ثابت من رواية زينب بنت كعب بن عجرة، وهي وإن خرجت عن حدّ الجهالة خلافا لقول علي بن المدينين برواية اثنين عنها: سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة، وسليمان بن محمد بن كعب بن عجرة، فلربما لم يشفع لها ذكر ابن حبان إياها في "الثقات" لكونها موصوفة عند ابن حجر " مقبولة "، والذي يحمل عند الشيخ الألباني – رحمه الله – على التضعيف خلافا للمعنى الصحيح لهذا المصطلح.
ولهذا ضعف الألباني هذا الحديث في (( الإرواء)) (33) فقال: " ورجاله ثقات غير زينب هذه، لم يرو عنها سوى اثنين، ونقل الذهبي عن ابن حزم أنه قال فيها (مجهولة) وأقرَّه. ومن قبله الحافظ عبد الحق الاشبيلي كما في ((التلخيص)) (34) ، فإنه قال: " وأعله عبد الحق تبعا لابن حزم بجهالة حال زينب" قال الحافظ : " وتعقبه ابن القطان بأنه وثقها الترمذي " !.
قلت: وكأنه أخذ توثيق الترمذي إياها من تصحيحه حديثها، ولا يخفى ما فيه لما عرف عن الترمذي من تساهل في التصحيح، ولذلك رأينا الحافظ نفسه لم يوثق زينب هذه ، فإنه قال عنها في (( التقريب )) "مقبولة" يعني عند المتابعة فتأمل" ا.هـ.
هذا داخل في معنى الجهالة عند ابن حزم، والألباني يقرُّه على ذلك خلافا للمعتمد عند علماء الجرح والتعديل، وهناك كثيرات من المجهولات اللاتي لم يعرفن بجرح ولا تعديل، ممن احتج بهن مالك ، والبخاري، ومسلم، والنسائي، وابن خزيمة، وابن حبان، وحديث زينب بنت كعب هو حجة الجمهور من الفقهاء في باب المعتدة المتوفى عنها زوجها ألا تنتقل من بيت زوجها حتى تنقضي عدَّتُها.
قال أبو عمر بن عبد البر:" وفي هذا الحديث وهو حديث مشهور معروف عند علماء الحجاز والعراق، أن المتوفى عنها زوجها تعتد في بيتها ولا تخرج منه، وهو قول جماعة فقهاء الأمصار بالحجاز والشام والعراق ومصر، منهم مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم والثوري والأوزاعي والليث بن سعد، وهو قول عمر وعثمان، وابن عمر وابن مسعود وغيرهم، وكان داود وأصحابه يذهبون إلى أن المتوفى عنها زوجها ليس عليها أن تعتد في بيتها، وتعتد حيث شاءت لأن السكنى إنما ورد به القرآن [ الكريم] في المطلقات، ومن حجته أن المسألة مسألة اختلاف، وقالوا: وهذا الحديث إنما ترويه امرأة غير معروفة بحمل العلم، وإيجاب السكنى إيجاب حكم، والأحكام لا تجب إلا بنص كتاب أو سنة ثابتة أو إجماع، قال أبو عمر: أما السنة فثابتة بحمد الله، وأما الإجماع فمستغنى عنه مع السنة، لأن الاختلاف إذا نزل في مسألة كانت الحجة في قول من وافقه السنة وبالله التوفيق " (35) .