لا تعرف الإنسانية ، ولا الحياة ولا الشعوب في تاريخها الطويل حدثاً كالهجرة ؛ كان له أبعد الآثار والنتائج على البشر أجمعين .
وليس في تاريخ الإسلام ما يفوق الهجرة في جلالها وأهميتها وعظمتها ، وفي بعيد أثرها على تاريخه وتاريخ المسلمين كافة .
هجرة محمد بن عبد الله – صلوات الله وسلامه عليه – من مكة إلى المدينة ، من أروع ما ضربه الرسول للناس من أمثال ، ومن أعظم الأحداث التاريخية على طول العصور والأجيال .
لقد كان موكب الإيمان ، موكب التوحيد ، موكب الحق : موكب الرسول - صلى الله عليه وسلم – وصاحبه أبي بكر الصديق ، منذ ألف وأربعمائة وأربعة وعشرين عاماً وهما في طريقهما من مكة إلى المدينة مقدّمة لمواكب رائعة ظافرة ، حققت للإنسانية كل ما كانت تصبو إليه من آمال على طول الأعوام والأجيال .
كان مقدمة لمواكب الصحابة الطويلة ، التي خرجت من الجزيرة العربية ، تهدر كالسيل إلى كل مكان في العالم ؛ لتنشر الدين ، وتعلي كلمة الله ، وتدعو الناس إلى الإيمان والحق ، والطهر والتوحيد .
وكان مقدمة لجيوش الإسلام الزاحفة ، كما يزحف الليل إلى كل مكان ، لتحمي دعوة الإسلام في الشام والعراق ومصر ، من عدوان الكسرويين والقيصريين ، ولتقود الدعاة إلى الله على كل أرض ، وفي كل قطر وشعب !
وكان مقدمة لمواكب العلماء التي خرجت من الجزيرة العربية إلى مراكز الثقافة والحضارة الإسلامية المبثوثة في كل مكان من الأندلس إلى الصين ، لتعلّم العقل الإنساني : كيف ينتصر على الجهل والخرافات ، والأوهام والشرك والوثنية والطغيان ، ولتذيع في الناس مبادئ الإسلام وقيمه ومثله الرفيعة في إعزاز الحياة وتكريم الإنسانية ، وتبجيل قدر العقل والفكر ، ووضعهما في قمة التقدير والإكبار والاحترام .
موكب جليل مهيب صغير ، واحد قاد – منذ ألف وأربعمائة وأربعة وعشرين عاماً – مسيرة الحضارة والإنسانية والتقدّم والعلم ، ووضع الدعامة الأولى لانتصار الإنسان المسلم على عصر الجاهلية ، وعلى مبادئها وضلالاتها ، وبهتانها وشركها ! .. وقاد الحياة البشرية عامة إلى ما كانت تتطلع إليه من نور وخير ، وعدل وحرية وسلام ، وإخاء ومساواة .
وكان هذا الموكب الجليل المهيب يسير فيه رجلان اثنان ، ولكنهما : مؤمنان ! مؤمنان ! مؤمنان !
محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصاحبه أبو بكر الصديق رضوان الله عليه !
خرجا مهاجرين من مكة إلى المدينة ، من الشرك والبهتان والضلال والجهل ، إلى أفق رحب فيه الإسلام أن يتنفس وأن يعيش .
خرجا مهاجرين من اضطهاد قريش وتعذيبها وتنكيلها ، إلى حيث يجدان – هما والمؤمنون بالله – الحرية والسلام ، والأمان والأمن في الأرض .
خرجا ، بعد أن سدّت قريش – أمام دعوة الله – كل طريق ، وبعد أن نالت من الرسول – صلى الله عليه وسلم – والمسلمين الأوائل كل نيل .. تعذيب وتشريد وتنكيل .. ليبنيا للإسلام حياة جديدة ، تكون له فيها السيادة والقوة ، والنصر بإذن الله .
خرجا بعد أن ائتمرت قريش بالرسول صلى الله عليه وسلم ، وصممت على قتله واعدّت لتنفيذ مؤامرتها الدنيئة الشريرة الضالة ؛ في وقت محدود معلوم .. { ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين } .
خرجا ينشدان الحياة والحرية ، والسلام والاطمئنان ، لا لأنفسهما بل للإسلام وللمسلمين أولاً وقبل كل شيء .
وضرب الرسول – صلى الله عليه وسلم – بهجرته للناس أروع الأمثال :
علّمهم أن الحق هو القوة ، وأن الباطل هو الهوان والضعف والصغار .
وعلّمهم أن العذاب والاضطهاد لا يمكن أن يكون وسيلة للنيل من المبادئ الشريفة الحق الصادقة .
وعلّمهم أن القوي ضعيف إذا لم يكن الحق معه ، وأن الضعيف قوي بالحق إذا اتبعه ، وكان من المؤمنين به .
وعلّمهم أن المال وعرض الحياة الدنيا لا يمكن أن يقف عقبة أمام العقيدة والإيمان ، وأن وسائل النصر لا يمكن أن تُنال إلا بالإيمان العميق .
وعلّمهم أن الدين كرامة وعزة وقوة ، وأن المسلم يجب ألا يحرص على المال والدار ليعيش من أجلهما عيشة الذليل ، بل عليه أن يضحّي بكل شيء في سبيل الله ، ومن اجل كلمة الله والجهاد في سبيل الحق والشرف والدين .
وعلّمهم أن الإسلام : إيثار وأخوة ، ومحبة وتعاون في الله ، وأن المسلمين جميعاً هم بنعمة الله قد أصبحوا إخواناً متعاونين في العسر واليسر ، والشقاء والرخاء .
وما أكثر ما ضربت – يا رسول الله – لأمتك من روائع المثل وعظائم الأعمال !
ففي كل دقيقة من دقائق حياتك الطويلة الحافلة ، المشرقة بالنور والخير والأمل ، كنت المثل الأعلى للإنسانية وللحياة وكل من عليها .
ومن شان العقول الكبيرة ، والنفوس العظيمة ، أن تقود مواكب الحياة ؛ مهما تعقدّت أمورها ، وتفاهمت خطوبها ، واحلوكت لياليها ودياجيها ، تقودها إلى الخير والبناء والنصر والرفاهية ، ولا تقودها إلى الدمار والهلاك والحرب .
وفي تاريخ الإنسانية الطويل غزاة دمروا العالم ، وهدموا ما بنته الإنسانية في عصور طوال ، وقوضوا صروح الحضارة والثقافة .
ولكن الرسل الكرام لم يكونوا من هؤلاء !
بل لقد كانت أعمالهم وانتصاراتهم لله ، وللحق ، وللدين ، ولفضائل الحياة ، ومن أجل تقدّم الحياة نفسها .
ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم – كان من بين رسل الله – قائد المسيرة الإنسانية ، والحضارة والشعوب كافة إلى العزة والحق ، والصدق والتوحيد والإيمان .
وكان رائد مواكب البشرية الطويلة الزاحفة في بيداء الحياة .. تنشد النور ، وتطلب العدل ، وتريد السلام ، وتؤمن بالحياة نفسها ، وبانتصار الإنسان فيها من أجل المثل العليا التي شرعها الله لعباده ، ومن أجل التقدّم والبناء ، والرفاهية والسعادة والإخاء الشامل ، والمساواة الكاملة ، والحرية السابغة .
وكان – في موكبه الصغير ، وهو يسير من مكة إلى المدينة ، فراراً من الظلم والعدوان وشريعة الشر والحرب والبهتان – معلّماً للإنسانية وهادياً لها ، ومرشداً لمسيرتها ، وضوءاً هداياً لقافلتها الزاحفة على الأرض .
ترك قريش ، والشر في أعينها وفي جباه رجالها الأشداء القساة ، وترك وطنه وداره وماله في مكة ، ليقول لهم :
إنه لا معنى للحياة بدون إيمان ، ولا قيمة للإنسان ! ولا قيمة للإنسان بدون عقيدة ! وإن الدين أغلى عند المسلم من ماله وداره ، وأهله ووطنه .
وليقول لهم : إني داعية سلام .. فإذا طلبتم الحرب ، فلن أكون من جناته !
ولسوف أترككم ، وأخرج من داركم غير نادم ولا متردد ولا حزين ؛ لأن كلمة الله أعلى ، ولأن الدين أسمى وأبقى ، ولأن الحياة نفسها لا يمكن أن تسير على المنوال الذي تسيرون عليه ، من الشرك والوثنية ، والضلال والطغيان والشر .
وانتصر الرسول – صلى الله عليه وسلم – في هذا المثل العظيم الذي ضربه للناس ، وانتصر الإسلام ، وانتصر المسلمون .
صارت للإسلام شوكة .. صارت له قوة ودولة .. صارت له منعة وغلبة .
دخل الرسول - صلى الله عليه وسلم – المدينة ، ودخلها بعد آلاف المهاجرين من المسلمين .
وشرع الرسول – صلى الله عليه وسلم – شريعة الإخاء بين الأنصار والمهاجرين ، ونظم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ما كان فوضى من أمور المسلمين في المدينة .
واتسعت رقعة الإسلام ..
وبعد أعوام قلائل شمل الجزيرة العربية كلها نوره ، ثم عمّ ضياؤه آفاق الدنيا كلها في أقل من قرن من الزمان .
ومن منطلق الهجرة ، انطلق الإسلام ، وانطلق النور ، وانطلقت الثقافة الحضارة .
ليعلّم الناس أن { الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون } .
ولتدوي في آذان الأجيال : { ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز } .
ولتؤكد لهم معنى قوله تعالى في كتابه العزيز :
{ يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متمّ نوره ولو كره الكافرون } .