الموضع الخامس : [ قصة الهجرة ] :
وفيها من الفوائد والعبر ما لا يعرفه أكثر من قرأها ، ولكن مرادنا الآن مسألة واحدة من مسائلها ، وهي: أن من أصحاب رسول الله r من لم يهاجر - من غير شك في الدين ، ولكن محبة للأهل والمال والوطن - فلما خرجوا إلى بدر ، خرجوا معهم وهم كارهون ، فقتل بعضهم بالرمي - والرامي لا يعرفهم - فلما سمع الصحابة: من القتلى: قتل فلان وفلان، شق عليهم ، وقالوا : قتلنا إخواننا فأنزل الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً . .. الآيات ).
فمن تأمل قصتهم ، وتأمل قول الصحابة : ( قتلنا إخواننا ) (علم أنهم) لو بلغهم عنهم كلام في سب الدين ، أو كلام في تزيين دين المشركين ، لم يقولوا : قتلنا إخواننا ، فإن الله بيّن لهم وهم بمكة ، قبل الهجرة أن ذلك كفر بعد الإيمان بقوله تعالى : (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ).
وأبلغ من هذا ما تقدم من كلام الله تعالى فيهم ، فإن الملائكة تقول لهم : { فيم كنتم }؟ ولم يقولوا : (لهم : كيف تصديقكم ، فلما قالوا : كنا مستضعفين في الأرض) لم يقولوا : (كذبتم) مثلما يقول الله والملائكة والملائكة للمجاهد الذي يقول : جاهدت في سبيلك حتى قتلت فيقول الله : كذبت ، وتقول الملائكة : كذبت ، بل قاتلت ليقال : جريء وكذلك يقال للعالم والمتصدق: كذبت ، بل تعلمت ليقال : عالم ، وتصدقت ليقال : جواد . . . وأما هؤلاء فلم يكذبوهم ، بل أجابوهم بقولهم : ( أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً).
ويزيد ذلك إيضاحاً للجاهل والعارف : الآية التي بعدها ، وهي قوله تعالى : (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) فهذا أوضح جداً لأن هؤلاء الذين خرجوا من الوعيد ، فلم يبق شبهة ، لكن لمن طلب العلم بخلاف من لم يطلبه ، بـل قال الله فيمن هذه صفته : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) .
فمن فهم هذا الموضع والموضع الذي قبله، فهم كلام الحسن البصري : ( ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتّمنّي ، ولكن ما وقر في القلـوب ، وصدّقته الأعمال ، وذلك أن الله تعالى يقول : ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ )